فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (28):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [28].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: المطهرة بواطنهم بالإيمان {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} أي: ذوو نجس، لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، هو مجاز عن خبث الباطن، وفساد العقيدة، مستعار لذلك، أو هو حقيقة، لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون، ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها، مبالغة في وصفهم بها.
{فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} أي: لحج أو عَمْرة كما كانوا يفعلون في الجاهلية، قال المهايمي: لأن المسجد الحرام يجتمع فيه المتفرقون في الأرض، ليسري صفاء القلوب من بعض إلى بعض، وها هنا يخاف سريان الظلمات في العموم.
{بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} أي: بعد حج عامهم هذا، وهو عام تسع من الهجرة، حين أمّر أبو بكر على الموسم، وتقدم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتبع أبا بكر بعلي رضي الله عنهما، لينادي في المشركين: «ألا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان». فأتم الله ذلك، وحكم به شرعاً وقدراً.
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي: فقراً بسبب منعهم من الحرم، لانقطاع أرفاق كانت لكم من قدومهم {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء} أي: من فتح البلاد، وحصول المغانم، وأخذِ الجزية، وتواجه الناس من أقطار الأرض.
قال ابن إسحاق: إن الناس قالوا: لتقطعنّ عنا الأسواق، فلتهلكن التجارة، وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المرافق، فقال الله تعالى: {وإن خفتم عيلة} إلى قوله:
{وهم صاغرون} أي: هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق، فعوضهم الله مما قطع عنهم بأمر الشرك، ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية. انتهى.
{إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ} أي: بما يصلحكم: {حَكِيمٌ} أي: فيما يأمر به وينهي عنه.
تننبيهات:
الأول: دلت الآية على نجاسة المشرك، كما في الصحيح «المؤمن لا ينجس»، وأما نجاسة بدنه، فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات، لأن الله تعالى أحلّ طعام أهل الكتاب.
وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم، وقال أشعث عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ، رواه ابن جرير، ونقله ابن كثير.
وأقول: الإستدلال بكونه تعالى أحلّ طعام أهل الكتاب غير ناهض، لأن البحث في المشركين وقاعدة التنزيل الكريم، التفرقة بينهم وبين أهل الكتاب، فلا يتناول أحدهما الآخر فيه.
وقال بعض المفسرين اليمنيين: مذهب القاسم والهادي وغيرهما، أن الكافر نجس العين، آخذاً بظاهر الآية، لأن الحقيقة ويؤيد ذلك حديث أبي ثعلبة الخُشَنِي قال:
فإنه قال: للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نأتي أرض أهل الكتاب فنسألهم آنيتهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «اغسلوها ثم اطبخوا فيها»، وقال زيد والمؤيد بالله والحنفية والشافعية: إن المشرك ليس نجس العين، لأنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشرك، واستعار من صفوان دروعاً ولم يغسلها، وكانت القصاع تختلف من بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسارى ولا تغسل، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يطبخون في أواني المشركين ولا تغسل. وأوّلوا الآية بما تقدم من الوجوه، وكلٌّ متأولٌ ما احتج به الآخر. انتهى.
الثاني: قال السيوطي في الإكليل في قوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}: إن الكافر يمنع من دخول الحرم، وإنه لا يؤذن له في دخوله، لا للتجارة ولا لغيرها، وإن كانت مصلحة لنا، لأن المسجد الحرام حيث أطلق في القرآن فالمراد به الحرم كله، كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء وغيرهم.
واستدل بظاهر الآية من أباح دخوله الحرم سوى المسجد، لقصره في الآية عليه، واستدل الشافعي بظاهر الآية على أنهم لا يمنعون من دخول سائر المساجد، لقوله: {الحرام}، وقاس عليه غيره سائرَ المساجد.
واستدل أبو حنيفة بظاهرها أيضاً على أن الكتابي لا يمنع، دخوله لتخصيصه بالمشرك. انتهى. وهو المتجّه.
قال الشهاب: وبالظاهر أخذ أبوحنيفة رحمه الله تعالى، إذ صرف المنع عن دخوله الحرم للحج والعمرة، بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}، فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم، وهو ظاهر، أي: لأن موضع التجارات ليس عين المسجد. ونداءُ عليّ كرم الله وجهه بقوله: «ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك»، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، يعيّنه، فلا يقال إن منطوق الآية يخالفه. انتهى.
الثالث: قال الناصر: قد يستدل بقوله تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ} الآية، من يقول إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وخصوصاً بالمناهي، فإن ظاهر الآية توجه النهي إلى المشركين، إلا أنه بعيد، لأن المعلوم من المشركين أنهم لا ينزجرون بهذا النهي، والمقصود تطهير المسجد الحرام بإبعادهم عنه، فلا يحصل هذا المقصود إلا بنهي المسلمين عن تمكينهم من قربانه.
ويرشد إلى أن المخاطب في الحقيقة المسلمون، تصديرُ الكلام بخطابهم في قوله:
{يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا} وتضمينه نصاً بخطابهم بقوله: {وَإنْ خِفْتُم عَيْلَةً}، وكثيراً ما يتوجه النهي على مَن المراد خلافه، وعلى ما المراد خلافه، إذا كانت ثَمَّ ملازمة كقوله: لا أرينَّك ها هنا {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. انتهى.
الرابع: العَيْلة مصدر من عال بمعنى افتقر. قرئ {عائلة}، وهو إما مصدر بوزن فاعلة، أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر، أي: حالاً عائلة، أي: مفقرة.
قال ابن جني: هذه من المصادر التي جاءت على فاعلة، كالعاقبة والعافية. ومنه قوله تعالى: {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}، أي: لغواً ومنه قولهم: مررت به خاصة، أي: خصوصاً وأما قوله تعالى: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} فَيجوز أن يكون مصدراً، أي: خيانة، وأن يكون على تقدير: نية أو عقيدة خائنة. وكذا ها هنا يقدر: إن خفتم حالاً عائلة. انتهى.
الخامس: إن قيل: ما وجه التعليق بالمشيئة في قوله تعالى: {إنْ شاءَ} مع أن المقام وسبب النزول، وهو خوفهم الفقر، يقتضي دفعه بالوعد بإغنائهم من غير تردد؟
فالجواب: أن الشرط لم يذكر للتردد، بل لبيان أنه بإرادته لا سبب له غيرها، فانقطعوا إليه، واقطعُوا النظر عن غيره، ولينبه على أنه متفضل به، لا واجب عليه، لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى الإرادة، فلا يقال إن هذا لا حاجة إلى أخذه من الشرط، مع قوله: من فضله، لأن قوله: {مِنْ فضْلِهِ} يفيد أنه عطاء وإحسان، وهذا يفيد أنه بغير إيجاب، وشتان بينهما، وقيل إنه للتنبيه على أنه بإرادته، لا بسعي المرء وحلته:
لَوْ كَاْنَ بَالْحِيَلِ الغِنَى لَوَجَدْتنِي ** بِنجومِ أَقْطَارِ السَّمَاءِ تَعَلّقِي

كذا في العناية.

.تفسير الآية رقم (29):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [29].
{قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} اعلم أنه لما ذكر تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة من عهدهم، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام وعدم الخوف من الفاقة المتوهمة من انقطاعهم، ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية، منبهاً في تضاعيف ذلك على بعض طرق الإغناء الموعود على الوجه الكلي، مرشداً إلى سلوكه ابتغاء لفضله، واستنجازاً لوعده.
قال مجاهد: نزلت الآية حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك.
وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. انتهى.
ولا يخفى شمول الآية لكل ذلك بلا تخصيص.
قال ابن كثير: هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب- اليهود والنصارى- وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم، فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفاً، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة، ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جدب، ووقت قيظ وحرّ.
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، ونزل بها، وأقام بها قريباً من عشرين يوماً، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامة ذلك لضيق الحال، وضعف الناس، كما سيأتي بيانه بعدُ إن شاء الله تعالى. انتهى.
والتعبير عن أهل الكتاب بالموصول المذكور، للإيذان بعليّة ما في حيز الصلة للأمر بالقتال، فإنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، كما أمر تعالى، إذ لديهم من فساد العقيدة، فيما يجب له تعالى وفي البعث، أعظم ضلال وزيغ {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} يعني ما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة.
وقيل: المراد برسوله الرسول الذي يزعمون اتباعه، فالمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقاداً وعملاً، إذ غيّروا وبدّلوا أتباعاً لأهوائهم.
وقوله: هاب: فيكون المراد: لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم، وقوله تعالى: {دين الحق} من إضافة الموصوف للصفة، أو المراد بالحق: الله تعالى.
وقوله: {حَتى يُعْطُوا الجزيَةَ} أي: ما تقرر عليه أن يعطوه.
قال ابن الأثير: الجزية المال الذي يعقد عليه الكتابيّ الذمة، وهي فِعْلَة من الجزاء كأنها جَزَتْ عن قتله.
وقال الراغب: سميت بذلك للإجتزاء بها عن حقن دمهم.
وقال الشهاب: قيل مأخذها من الجزاء بمعنى القضاء. يقال: جزيته بما فعل، أو جازيته، أو أصلها الهمز من الجزء والتجزئة، لأنها طائفة من المال يعطى، وقيل: إنها معرف كزيت، وهو الجزية بالفارسية. انتهى.
وقوله تعالى: {عَن يَدٍ} حال من فاعل: {يَعْفُوا} واليد هنا إمّا بمعنى الإستسلام والإنقياد، يقال: هذه يدي لك، أي: استسلمت إليك، وانقدت لك، وأعطى يده أي: انقاد.
كما يقال في خلافه: نزع يده من الطاعة. لأن من أبى وامتنع، لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، وإما بمعنى النقد، أي: حتى يعطوها نقداً غير نسيئة، فيكون كاليد في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب والفضة... إلى قوله: يداً بيد».
وإما بمعنى الجارحة الحقيقية، وعن بمعنى الباء، أي: لا يبعثون بها عن يد أحد، ولكن عن يد المعطي إلى يد الآخذ.
وإما بمعنى: من طيبة نفس، قال أبو عبيدة: كل من انطاع لقاهر بشيء أعطاه، من غير طيب نفس به وقهر له، من يد في يد، فقد أعطاه عن يد. مجاز القرآن ج 1 ص256.
وإما بمعنى الجماعة، أنشد ابن الأعرابي:
أعطى فأعطاني يداً ودَارا ** وباحةً حوَّلها عَقَارا

ومنه الحديث: «وهم يدٌ على من سواهم». أي: هم مجتمعون على أعدائهم، يعاون بعضهم بعضاً- قاله أبو عبيدة- وإما بمعنى الذل- نقله ابن الأعرابي وحكاه وجهاً في الآية-.
هذا إن أريد باليد يد المعطي، وإن أريد بها يد الآخذ، فاليد إما بمعنى القوة، أي: عن يد قاهرة مستولية، ويقولون: ما لي به يد أي: قوة، وإما بمعنى السلطان، وهو كالذي قبله، ومنه يد الريح سلطانها. قال لَبِيد:
نِطافٌ أمْرُهَا بِيَدِ الشَّمَالِ

لما ملكت الريح تصريف السحاب، جعل لها سلطان عليه.
وإما بمعنى النعمة، أي: عن إنعام عليهم بذلك، لأن قبول الجزية، وترك أنفسهم عليهم، نعمة عليهم.
قال الناصر في الإنتصاف: وهذا الوجه أملى بالفائدة.
وإمّا بمعنى الغنى، حكاه في العناية، ونقله التاج من معاني اليد.
وقوله تعالى: {وهم صاغرون} أي: أذلاء.
تنبيهات:
الأول: قوله تعالى: {عن يد} إما حال من الضمير في: {يُعْطوا}، أو من الجزية أي: مقرونة بالإنقياد، ومسلمة بأيديهم، وصاردة عن غنى، ومقرونة بالذلة، وكائنة عن إنعام عليهم. كذا في العناية.
الثاني: قال السيوطي في الإكليل: هذه الآية أصل قبول الجزية من أهل الكتاب.
الثالث: قال أيضاً: استدل من قال بأن معنى اليد فيما تقدم الغنى، أنها تجب على مُعسر، ومن قال بأنه لا يرسل بها، على أنه لا يجوز توكيل مسلم بها، ولا أن يضمنها عنه، ولا أن يحيل بها عليه.
الرابع: قال السيوطي أيضاً: استدل بقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} من قال إنها تؤخذ بإهانة، فيجلس الآخذ ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه، ويحني ظهره، ويضعها في الميزان، ويقبض الآخذ لحيته، ويضرب لهزمتيه.
قال: ويردّ به على النووي حيث قال: إن هذه سيئة باطلة. انتهى.
قلت: ولقد صدق النووي عليه الرحمة والرضوان، فإنها سيئة قبيحة، تأباها سماحة الدين، والرفق المعلوم منه، ولولا قصده الرد على من قاله لما شوهت بنقلها ديباجة الصحيفة.
ثم رأيت ابن القيّم رد ذلك بقوله: هذا كله مما لا دليل عليه، ولا هو مقتضى الآية، ولا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه، قال: والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم بجريان أحكام الله تعالى عليهم، وإعطاء الجزية، فإن ذلك الصغار، وبه قال الشافعي. انتهى.
ثم قال السيوطي: واستدل بالآية من قال: إن أهل الذمة يتركون في بلد أهل الإسلام، لأن مفهومها الكف عنهم عند أدائها، ومن الكف ألا يجلوا، ومن قال لا حدّ لأقلها، ومن قال هي عوض حقن الدم لا أجرة الدار. انتهى.
السادس: روى أبو عبيد في كتاب الأموال عن ابن شهاب قال: أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب، أهل نجران، وكانوا نصارى.
السادس: قال أبو عبيد: ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب، وعلى المجوس بالسنة.
وقال ابن القيم:
فلما نزلت آيةُ الجزية، أخذها صلى الله عليه وسلم مِن ثلاث طوائف: مِن المجوسِ، واليهود، والنصارى، ولم يأخذها من عُبَّادِ الأصنام.
فقيل: لا يجوزُ أخذُها مِن كافر غير هؤلاء، ومَن دان بدينهم، اقتداءً بأخذه وتركه. وقيل: بل تُؤخذ من أهل الكتاب وغيرِهم من الكفار كعبدة الأصنام من العجم دون العرب، والأول: قول الشافعي رحمه الله، وأحمد، في إحدى روايتيه.
والثاني: قولُ أبى حنيفة، وأحمد رحمهما الله في الرواية الأخرى.
وأصحاب القول الثاني يقولون: إنما لم يأخذها مِنْ مشركي العربِ، لأنها إنما نزَلَ فرضُها بعد أن أسلمت دَارَةُ العرب، ولم يبق فيها مُشِركٌ، فإنها نزلت بعد فتح مكة، ودخولِ العربِ في دين الله أفواجاً، فلم يبق بأرض العرب مشرك، ولهذا غزا بعد الفتح تبوكَ، وكانُوا نصارى، ولو كان بأرض العرب مشركون، لكانُوا يلونه، وكانوا أولى بالغزو من الأبعدين.
ومن تأمَّل السِّيَرَ، وأيامَ الإسلام، علم أن الأمرَ كذلك، فلم تؤخذ منهم الجزيةُ لعدم مَن يُؤخذ عنه، لا لأنهم ليسوا مِن أهلها، قالوا: وقد أخذها من المجوس، وليسوا بأهلِ كتاب، ولا يَصح أنه كان لهم كتاب، ورفع وهو حديث لا يثبُت مثلُه، ولا يصح سنده.
ولا فرق بين عُبَّادِ النَّار، وعُبَّاد الأصنام، بل أهلُ الأوثانِ أقربُ حالاً من عُبَّادِ النار، وكان فيهم مِن التمسك بدين إبراهيم ما لم يكُن في عُبَّاد النار، بل عُبَّاد النار أعداءُ إبراهيم الخليل، فإذا أُخِذَتْ منهم الجزية، فأخذها من عُبَّاد الأصنام أولى، وعلى ذلك تدل سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في صحيح مسلم أنه قال: «إذا لَقيتَ عَدُوَّكَ مِنَ المُشْرِكِينَ، فادْعهُم إلى إِحْدَى خِلاَلٍ ثَلاَثٍ، فَأيَّتهنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا، فاقْبَلْ مِنْهُم، وكُفَّ عنهم». ثم أمرَه أن يَدْعُوَهُم إلى الإِسْلاَمِ، أَو الجِزْيَةِ، أو يُقَاتِلَهم.
وقال المغيرة لعاملِ كسرى: «أمرنا نبيُّنَا أن نُقاتِلَكم حتى تعبُدوا الله، أو تؤدُّوا الجزية».
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لِقريش: «هَلْ لَكُمْ في كَلِمةٍ تَدِينُ لَكُمْ بِهَا العَرَبُ، وتُؤدَّي العَجَمُ إِلَيْكُمُ بِهَا الجِزْيَةَ؟». قالُوا: ما هي؟ قال: «لاَ إِلَهََ إِلاَّ الله».
ثم ذكر ابن القيم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر، والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعاً، وثلاثين فرساً، وثلاثين بعيراً، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح، يغزون بها، والمسلمون ضامنون بها، حتى يردوها عليهم، إن كانت باليمن كيدة أو غدرة، وعلى ألا يُهْدَم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قسّ، ولا يفتنوا عن دينهم، ما لم يحدثوا حدثاً، أو يأكلوا الربا.
ولما وجه معاذاً إلى اليمن أَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ مُحْتَلِمٍ دِينَاراً أَوْ قِيمَتَهُ مِنَِ الثياب.
وفى هذا دليل على أن الجزية غيرُ مقدَّرة الجنس، ولا القدرِ، بل يجوز أن تكونَ ثياباً وذهباً وحُللاً، وتزيدُ وتنقُصُ بحسب حاجة المسلمين، واحتمال مَن تؤخذ منه، وحاله في الميسرة، وما عنده من المال.
ولم يفرِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاؤه في الجزية بين العربِ والعجم، بل أخذها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من نصارى العرب، وأخذها مِن مجوس هجر، وكانوا عرباً، فإن العرب أمةٌ ليس لها في الأصل كتاب، وكانت كل طائفة منهم تدين بدين مَن جاورها من الأُمم، فكانت عربُ البحرين مجوساً لمجاورتها فارِسَ، وتنوخَ، وبُهْرَة، وبنو تغلب نصارى لمجاورتهم للروم، وكانت قبائلُ من اليمن يهود لمجاورتهم ليهود اليمن، فأجرى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أحكامَ الجِزية، ولم يعتبر آباءهم، ولا متى دخلُوا في دينِ أهل الكتاب:
هل كان دخولهم قبل النسخ والتبديل أو بعده، ومن أين يعرِفُونَ ذلك، وكيف ينضبط وما الذي دلَّ عليه؟ وقد ثبت في السير والمغازي، أن من الأنصار مَن تهوَّد أبناؤهم بعد النسخ بشريعة عيسى، وأراد آباؤهم إكراههم على الإسلام، فأنزل الله تعالى: {لا إكْرَاهَ في الدِّينِ}، وفى قوله لمعاذ: «خُذْ مِنْ كُلِّ حالم ديناراً» دليل على أنها لا تُؤخذ من صبى ولا امرأة.
السابع: قال الإمام أبو يوسف رحمه الله في كتابه الخراج:
وليس في شيء من أموالهم، الرجال منهم والنساء، زكاة، إلا ما اختلفوا به في تجارتهم، فإن علهيم نصف العشر، ولا يؤخذ من مال حتى يبلغ مائتي درهم، أو عشرين مثقالاً من الذهب، أو قيمة ذلك من العروض للتجارة، ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية، ولا يقاموا في الشمس ولا غيرها، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره، ولكن يرفق بهم، ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم، ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفي منهم الجزية، ولا يحل للوالي أن يدع أحداً من النصارى واليهود والمجوس والصابئين والسامرة، إلا أخذ منهم الجزية، ولا يرخص لأحد منهم في ترك شيء من ذلك، ولا يحل أن يدع واحداً ويأخذ من واحد، ولا يسع ذلك، لأن دماءهم وأموالهم إنما أحرزت بأداء الجزية، والجزية بمنزلة مال الخراج.
ثم قال أبو يوسف مخاطباً هارون الرشيد:
وقد ينبغي يا أمير المؤمنين- أيدك الله- أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك وابن عمك محمد صلى الله عليه وسلم، والتفقد لهم حتى لا يُظلموا ولا يؤذوا، ولا يُكلفوا فوق طاقتهم، ولا يُؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه». وكان فيما تكلم به عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه عند وفاته: أُوصِي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا فوق طاقتهم.
قال: وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد أنه مرّ على قوم قد قال: أقيموا في الشمس في بعض أرض الشام، فقال: ما شأن هؤلاء؟ فقيل له أقيموا في الشمس في الجزية! قال: فكره ذلك، ودخل على أميرهم، وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من عذب الناس عذبه الله».
قال: وحدثنا هشام بن عروة عن أبيه أن عُمَر بن الخطاب مرّ بطريق الشام وهو راجع في مسيره من الشام على قوم قد أقيموا في الشمس، يصبّ على رؤوسهم الزيت، فقال: ما بال هؤلاء؟ فقال: عليهم الجزية لم يؤدوها، فهم يعذبون حتى يؤدوها! فقال عمر: فما يقولون هم وما يعتذرون به في الجزية؟ قالوا: يقولون لا نجد! قال: فدعوهم لا تكلفوهم ما لا يطيقون.
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تعذبوا الناس، فإن الذين يعذبون الناس في الدنيا، يعذبهم الله يوم القيامة وأمر بهم فخلي سبيلهم».
ثم قال: وحدثني عمير بن نافع عن أبي بكر قال: مرّ عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه وقال: من أي: أهل الكتاب أنت؟ فقال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية، والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شيبته، ثم نخذله عند الهرم: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} والفقراء المسلمون، وهذا من المساكين من أهل الكتاب.
ووضع عنه الجزية وعن ضربائه. قال: قال أبو بكر: أنا شهدت ذلك من عمر، ورأيت ذلك الشيخ. انتهى.
الثامن: في الغرض من الجزية ورأفة المسلمين بمن أظلوهم بسيوفهم.
قال الإمام الشيخ محمد عبده مفتي مصر في كتاب الإسلام والنصرانية في هذا المعنى، تحت بحث المقابلة بين الإسلامي الحربيّ، المسيحية السلمية، ما نصه ص74:
الإسلام الحربي، كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه، ثم يترك الناس، وما كانوا عليه من الدين، يؤدون ما يجب عليهم في اعتقادهم كما شاء ذلك الإعتقاد، وإنما يكلفهم بجزية يدفعونها، لتكون عوناً على صيانتهم، والمحافظة على أمنهم في ديارهم، وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم بعد ذلك أحرار، لا يضايقون في عمل، ولا يضامون في معاملة، خلفاء المسلمين، كانوا يوصون قوادهم باحترام العبَّاد الذين انقطعوا عن العامة في الصوامع والأديار لمجرد العبادة، كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء والأطفال، وكل من لم يُعِن على القتال.
جاءت السنة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمة، وبتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، ومن آذى ذمياً فليس منا واستمر العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام، ولست أبالي إذا انحرف بعض المسلمين عن هذه الأحكام عندما بدأ الضعف في الإسلام وضيقُ الصدر من طبع الضعيف، فذلك مما لا يلصق بطبيعته، ويخلط بطينته.
المسيحيةُ السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها، تراقب أعمال أهله، وتخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر، مهما عظم، حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم، وتعميدهم، أجلتهم عن ديارهم، وغسلت الديار من آثارهم، كما حصل ويحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاءً حقيقياً، لا يمنع غيرَ المسيحي من تعدي المسيحي إلا كثرة العدد، أو شدة العضد، كما شاهد التاريخ، وكما يشهده كاتبوه.
ثم قال: فأنت ترى الإسلام يكتفي من الأمم والطوائف التي يغلب على أرضها، بشيء من المال، أقل مما كانوا يؤدونه من قبل تغلّبه عليهم، وبأن يعيشوا في هدوء، لا يعكرون معه صفو الدولة، ولا يخلّون بنظام السلطة العامة، ثم يرخي لهم بعد ذلك عنان الإختيار في شؤونهم الخاصة بهم، لا رقيب عليهم فيها إلا ضمائهم. انتهى.
وفي كتاب أشهر مشاهير الإسلام في بحث إجلاء أهل نجران ما نصه:
إن أساس الدعوة إلى الإسلام التبليغ، وأنه لا إكراه في الدين، فمن قبلها كان من المسلمين، ومن أبى فعليه أن يخضع لسلطانهم، وأن يعطيهم جزءاً من ماله يستعينون به على حماية ماله وعرضه ونفسه، وله عليهم حق الوفاء بما عاهدوه عليه، وقال: لا يُفْتَنَ عن دينه، وأن تكون له الذمة والعهد أنَّى حل، وحيثما وجد من ممالك الإسلام، ما دام وافياً بعهده، مؤدياً لجزيته، لا يخون المسلمين، ولا يمالئ عليهم عدوّهم، وأحسن شاهد على هذا نسوقه إليك في هذا الفصل، خبر أهل نجران اليمن، وكانوا من الكتابيين، لتعلم كيف كانت معاملة أهل الذمة، ومبلغ محافظة الخلفاء على عهودهم معهم، ما لم يخونوا أو يغدروا.
وتحرير الخبر عنهم أنهم وفَدَ وفْدُهُمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام فأبوا، وسألوه الصلح، وأن يقبل منهم الجزاء، فصالحهم على شيء معلوم، يؤدونه كل سنة للمسلمين وكتب لهم بذلك كتاباً جعل لهم فيه ذمة الله وعهده، وأن لا يفتنوا عن دينهم، ومراتبهم فيه، ولا يحشروا ولا يعشروا، وأن يؤمنوا على أنفسهم وملتهم وأرضهم وأموالهم، وغائبهم وشاهدهم وعيرهم، وبعثهم وأمثلتهم. لا يغير ما كانوا عليهن ولا يغير حق من حقوقهم، ولا يطأ أرضهم جيش ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف، غير ظالمين ولا مظلومين، ولهم على ذلك جوار الله، وذمة رسوله أبداً، حتى يأتي أمر الله، ما نصحوا وأصلحوا.
واشترط عليهم أن لا يأكلوا الربا، ولا يتعاملوا به.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه، أقرهم على حالهم، وكتب لهم كتاباً على نحو كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان يتخوفهم، ويود إجلاءهم لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبقين في جزيرة العرب دينان».
ولما حضر أبا بكر الوفاة، أوصى عُمَر بن الخطاب بإجلاءهم لنقضهم العهد بإصابتهم الربا.
فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أن لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، لأن العرب أمة حديثة عهد بالإسلام، قد عانى صلى الله عليه وسلم ما عانى في جمع كلمتها، وتوحيد وجهتها، فمن الخطر أن يوجد بين ظهرانيها قوم يدينون بغير دينها، فيفتنون من جاورهم عن الإسلام، على حداثة عهدهم فيه، وعدم تمكنهم بعدُ من أصوله الصحيحة.
هذا من وجه، ومن وجه آخر، فإن النجرانيين كانوا يتاجرون بالربا، ولا يخفى ما فيه من الضرر على من جاورهم من أهل اليمن، الذين ينضب التعاملُ بالربا معينَ ثروتهم، ويؤذن بفقرهم، على غير شعور منهم، لاسيما وأن الشريعة الإسلامية قد حرمته تحريماً باتاً، ولا يؤمن من أن النجرانيين، باستمرارهم على تعاطي الربا، يحملون بعض من جاورهم من المسلمين على ارتكاب الإثم بالتعامل معهم بالربا.
ومع هذه الأسباب التي تلجيء إلى إكراه النجرانيين على الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرههم على ذلك، لأن شريعته لم تأذن بإكراه أهل الكتاب على الإسلام، لهذا تركهم على دينهم، بعد أن دعاهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن، فأبوا، وأعطاهم كتاب العهد المذكور، إلا أنه اشترط عليهم فيه أن لا يخونوا المسلمين، ولا يتعاملوا بالربا كما رأيت.
ولما استُخْلِفَ أبو بكر أكد لهم عهدهم الأول، مع أنه كان يرى في وجودهم في جزيرة العرب من الخطر ما كان يراه النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يسعه في أمرهم إلا ما وسع الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إذا علم أنهم خانوا العهد، وتعاملوا بالربا، أمر في حال مرضه عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بإجلائهم عن جزيرة العرب، دون أن يُفتنوا في دينهم.
ولما استُخْلِف عمر رضي الله عنه، كان أول بعث بعثه، بعث أبي عبيد إلى العراق، وبعث يعلى بن أمية إلى اليمن، وأمره بإجلاء أهل نجران، وأن يعاملهم بالرأفة ويشتري أموالهم، ويخيرهم عن أرضهم في أي: أرض شاءوا من بلاد الإسلام، لا أن يعاملهم معاملة القوي الغالب، للضعيف المغلوب، كما هو شأن كل دولة من الدول قبل الإسلام وبعده، حتى الآن، في معاملة الأمم التي تخالف مذهبها، وتخضع لقوة سلطانها، فتفرقوا، فنزل بعضهم الشام، وبعضهم النجرانية بناحية الكوفة، وبهم سميت.
ولم تقف العناية بهم في إجلائهم، والمحافظة على ما بيدهم من العهد، وتعويضهم عما تركوه من العقار والمال عند هذا الحد، بل كانوا يجدون بعد ذلك من الخلفاء كل رعاية ورفق.
من ذلك أنهم شكوا مرة إلى عثمان رضي الله عنه- لما استخلف- ضيقَ أرضهم، ومزاحمة الدهاقين لهم، وطلبوا إليه تخفيف جزيتهم، فكتب إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، عامله على الكوفة، كتاباً يوصيه بهم، ويأمره أن يضع عنهم مائتي حلة من جزيتهم، لوجه الله، وعقبى لهم من أرضهم.
وروى البلاذري، أنه لما ولي معاوية، أو يزيد بن معاوية، شكوا إليه تفرقهم، وموت من مات منهم، وإسلام من أسلم منهم، وأحضروه كتاب عثمان بن عفان، بما حطهم من الحلل، وقالوا: إنما ازددنا نقصاناً وضعفاً، فوضع عنهم مائتي حلة تتمة أربعمائة حلة.
فلما ولي الحجّاجُ العراق، وخرج ابن الأشعث عليه، اتهمهم والدهاقين بموالاته، فردّ جزيتهم إلى ما كانت عليه.
فلما ولَي عُمَر بن عبد العزيز الخلافة، شكوا إليه ظلم الحجاج ونقصهم، فأمر فأحصوا فبلغوا العشر من عدتهم، فألزمهم مائتي حلة جزية عن رؤوسهم فقط.
فلما ولي يوسف بن عُمَر العراق، في خلافة الوليد بن يزيد الأموي ردّهم إلى ما كانوا عليه، عصبيةً للحجاج.
فلما انقضت دولة الأموي واستخلف أبو العباس السفاح، رفعوا إليه أمرهم، وما كان من عُمَر بن عبد العزيز ويوسف بن عُمَر، فردّهم إلى مائتي حلة ولما استخلف هارون الرشيد شكوا إليه تعنت العمال معهم، فأمر فكُتب لهم كتاب بالمائتي حلة، وبالغ بالرفق بهم، فأمر أن يعفوا من معاملة العمال، وأن يكون مؤداهم بيت المال بالحضرة، كي لا يتعنتهم أحد من العمال.
هذا ما رواه المؤرخون في شأن هؤلاء الكتابيين الذين أجلاهم عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه عن جزيرة العرب.
وقد رأيت مما مرّ مبلغ عناية عمر رضي الله عنه بهم، لما لم ير بُدَّاً من إجلائهم للأسباب التي مر ذكرها.
وقد كان من السهل إكراههم على الإسلام، ودخولهم فيه، كما دخل أولئك الملايين من مشركي العرب، وعامة سكان الجزيرة العربية، طوعاً أو كرهاً.
وإنما هو الشرع الإسلامي، منع من إكراه غير مشركي العرب على الإسلام، كما منع من نقض العهد، وخفر الذمة إلا بسبب مشروع.
لهذا، لما خان النجرانيون عهدهم بتعاملهم بالربا، وقد عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يتعاملوا به في الجزيرة، ساغ لأمير المؤمنين إجلاؤهم إلى غيرها، بعد أن عوّضهم عن المال والعقار بمثله.
وما زال الخلفاء بعده- مبالغة بالرفق بأهل الكتاب، وقياماً بواجب السيادة العادلة، ووفاء بعهد الله والرسول- يعاملون النجرانيين بأحسن ما تعامل به عامة الرعية من المسلمين ويدفعون عنهم أذى الظلم والإجحاف كما رأيت.
ونتج من هذه القصة ثلاثة أمور:
الأمر الأول: عدم إكراه النجرانيين على الإسلام، مع تعيّن الخطر من وجودهم في جزيرة العرب، لحداثة عهد أهلها بالإسلام، ذلك لأن عدم الإكراه من أصول الشريعة الإسلامية، والجهادُ الذي يعظم أمرَه أعداءُ المسلمين إنما شرع لحماية الدعوة لا للإكراه، إلا جهاد مشركي العرب يومئذ، فقد شرع لإرغامهم على الإسلام، لأسباب حكيمة لا تخفى على بصير، أهمها تطهير نفوس تلك الأمة العظيمة من شرور الوثنية، واستئصال شأفة الجهل والتوحش من جزيرة العرب، التي كانت وسطاً بين ممالك الشرق والغرب، من آسيا وإفريقيا وأوربا، بل هي نقطة الصلة السياسية والتجارية بين تلك الممالك، فانتشار أنوار المدنية والدين فيها، يستلزم انتشارها بطبيعة المجاورة، والإشراف على تلك الممالك أيضاً، قد كان ذلك كما هو معلوم.
والأمر الثاني: عدم حيد الخلفاء عن أمر الشارع فيما أمر به من الوفاء بالعهود، وتأكيدهم لعهد النجرانيين، الواحد تلو الآخر، على ضعف هؤلاء وقلتهم، وقوة الخلافة الإسلامية وسلطانها، وإن ذلك لم يكن عن رهبة أو رغبة، بل عن محض تمسك بالعهد، وعدل بين الشعوب الخاضعين لسلطة الخلافة، وسلطان الإسلام، من كل ملة ودين.
والأمر الثالث: حرص أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه على قاعدة حماية الذميّ في نفسه وماله، بتعويضه النجرانيين عن أرضهم ومالهم بالمثل من أرض المسلمين ومالهم، لما قضت الضرورة بإجلائهم عن أرضهم، إلى غيرها من بلاد المسلمين.
وقد ذكر في سيرة أبي بكر عن عمر رضي الله عنهما ما فعله من هذا القبيل من أهل عَرْبَسُوسَ من ثغور الروم، وكيف أنه لما أمر بإجلائهم عن أرضهم لخيانتهم جوار المسلمين، ونكثهم عهد الأمانة والصدق، أمر بأن يعوّضوا عن مالهم وعقارهم ونعمهم ضعفين.
وما زال الخلفاء في أيام الفتوح العظيمة وما بعدها يحافظون على حق القرار الثابت، والملك القديم، للأقوام المغلوبين للمسلمين، الخاضعين لسلطانهم، سواء كانوا من المسيحيين أو غيرهم، ولم يؤثر عن أحد منهم أنه طرد قوماً من أرضهم، أو انتزعها منهم بغير حق ولا عوض.
لا عبرة بما ربما يقع من هذا القبيل على بعض الأفراد من جور بعض العمال الذين غلبت شهواتهم على الفضيلة، فحادوا عن طريق الشرع، فإنه قد يصيب أفراد المسلمين من جور هؤلاء أكثر مما يصيب غيرهم، وليس في هذا ما يقدح في أصول الحكم الإسلامي الذي يأبى الظلم، ويدعو إلى الرأفة والعدل، هذا شان الإسلام في المحافظة على حقوق الأمم المغلوبة.
وقد رأيت مما تقدم أنه لم يعط للمسلمين من حقوق الغلب التي ينتحلها الغالبون في كل عصر، إلا ما تدعو إليه الضرورة القصوى، وتستلزمه سلامة الملك والدين، لا ما تدعو إليه شهوات الملك، ورغبات الأمة الغالبة.
وقد علم هذا المسلمون وخلفاؤهم، وأن لأهل الذمة ما لهم، وعليهم ما عليهم، فبالغوا في الرأفة بأهل جوارهم، والداخلين في ذمتهم من أرباب الملل الأخرى، فتركوا لهم حرية التملك والدين، لم ينازعوهم حقاً من حقوق المواطنة والجوار، بل كانوا يعتبرونهم جزءاً من الدولة، وعضواً من أعضاء مجتمعهم لا غنى عن مشاركته في العمل، ومشاطرته أسباب السعادة المدنية، والحياة الوطنية.
يؤيد هذا اعتماد الخلفاء الأمويين والعباسيين على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في ترتيب الدواوين الخراج.
وترجمة علوم اليونان، وتقريب النابغين منهم في علوم الهندسة والطب إليهم، واعتمادهم في شفاء عللهم عليهم، بل بلغ بالمسلمين اعتبارهم لأهل الكتاب عضواً من جسم هيأتهم الإجتماعية، لا يجوز فصله في حال من الأحوال أن جيوش التتار، لما اكتسحت بلاد الإسلام من حدود الصين إلى الشام، ووقع في أسرهم من وقع من المسلمين والنصارى، ثم خضد المسلمون شالذمة، تار في الشام، ودان ملوكهم بالإسلام، خاطب شيخُ الإسلام ابن تيمية رأس العلماء في عصره أميرَ التتار قطلوشاه بإطلاق الأسرى، فسمح له بالمسلمين، وأبى أن يسمح له بأهل الذمة، فقال له شيخ الإسلام: لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيراً لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة، فأطلقهم له. انتهى.
ومنه يعلم شأن الحكم الإسلاميَ في أهل الذمة، ومبلغ عناية الخلفاء والعلماء بهم. وقوله تعالى: